لقد تميز أهل السنة والجماعة بإحيائهم سنن الهدى وشرائع الإسلام في كل عصـر، وعُرِفوا برجال أعلام ساروا بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الناس علمًا وعملاً، فكرا وسلوكا؛ فهم أحكم المسلمين علمًا بدين الإسلام أصولًا وفروعًا، وأكمل المسلمين عملا بمقتضى هذا العلم باطنا وظاهرا؛ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص:80].
فكانوا في كل عصر منارات يلتف حولها الناس إذا حلكت بهم الظلمات، وقمما تصدع بالحق في وجه الطغيان،﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة 54-56].
وكما هدى الله المسلمين لما اختلف فيه أهل الملل؛ كذلك هدى أهل السنة لما اختلف فيه المسلمون، ولم يقعدهم قلة السالكين ولا كثرة المخالفين: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق -أو قائمة بأمر الله- لا يضـرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك».
إن منهج أهل السنة والجماعة هو دين الإسلام النقي كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يتسم بالشمول لكل جوانب حياة الإنسان المادية والروحية، والعموم لكل زمان ومكان، والواقعية في معالجة مشكلات البشر وفق المنهج الرباني.
ففي التوحيد والإيمان
يؤمنون أن التوحيد هو ركن الإيمان الأول وأصل دين الإسلام، والكلمة السواء التي اتفق عليها الأنبياء: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:64].
ويؤمنون بسائر أركان الإيمان. ويدينون بالتوحيد بنوعيه: العلم بالله وأسمائه وصفاته ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص]؛ وإفراد الله وحده بالعبادة ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر:11].
والعبادة بمفهومها الشامل تشمل كل مناحي الحياة ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163].
فلا ندعو أحدا سواه، ولا نشرك في حكمه أحدا. فكما أن الله وحده هو الذي خلق، فهو وحده الذي يأمر ويحكم، وهو الذي يحاسب ويجازي في الآخرة: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54] ﴿ألَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [الأنعام:62].
والتوجه بالعبادة لغيره أو الإذعان لغيره بالطاعة أو المناصرة على غير راية الإسلام كل ذلك من اتخاذ الأولياء من دون الله؛ ففي العبادة: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]؛ وفي الطاعة والانقياد: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف]؛ وفي الموالاة والنصرة: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء:139].
وكما أن ذلك مناف للتوحيد فهو مناف للإيمان: ﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة:81].
وفي منهج التلقي والاتباع
يرجعون إلى الوحيين -الكتاب والسنة- وفق فهم الصحابة ومن تبعهم من الأئمة العدول.
فقد بلّغ النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن لصحابته لفظا ومعنى: ”تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا“.
وإجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.
فإن اختلفوا ردوه إلى الله والرسول، وإن اتفقوا فالحق لا يخرج عن جماعتهم. أصول السنة عندهم التمسك بما كان عليه أصحاب النبي والاقتداء بهم، وترك البدع فإن كل بدعة ضلالة، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين وموافقة أصحاب الأهواء.
والسنة عندهم آثاره صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن، إنما هي الاتباع وترك الهوى.
وأهل السنة يمتثلون في هذا أمر الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].
فقلوبهم مجتمعة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبدانهم متحدة لبناء حصن الإسلام.
فيقيمون -في إطار اجتماعهم- فريضة الدعوة إلى الله والصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فدين الإسلام مبني على أصلين: على أن يُعبد الله وحده لا يُشرك به شيء، وأن يُعبد بما شَرَع على لسان رسوله، وهذان هما حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وبهما ننجو من الشرك والبدع.
وفي الحكم والإمارة
يؤمنون أن الحكم والخلافة من أفرض الفروض الدينية: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة:49]، والحاكم المسلم نائبٌ يقوم مقام النبي في حراسة الدين وسياسة الدنيا، مسئولٌ عن رعاية مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
فلا عصمة له ولا قداسة، بل يحكم بشرع الله تعالى لا يحيد، فيطبق فرائض الدين المحكمة ويذود عن حُرماته، ويجتهد في دائرة الفروع لا الأصول.
ثم هم يجمعون بين فريضتي طاعة الأمير في المعروف، والمناصحة والإنكار إذا انحرف عن الصواب؛ كما وصانا النبي صلى الله عليه وسلم: «ستكون أمراء فتَعرِفون وتُنكِرون، فمن كرِه فقد برئ، ومن أنكر فقد سَلِم، ولكن من رضي وتابع»، «وأن لا ننازع الأمرَ أهلَه، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان».
فلا يقعون في فتنة الخروج على الحاكم المسلم بالسيف، ولا يداهنونه فيما يغضب المولى فيقع الفساد العريض؛ بل أفضل الجهاد «كلمة حق عند سلطان جائر».
أما إذا خرج الحاكم عن شرائع الإسلام، وأَعمَلَ في المسلمين قوانين الكفر، وفتنهم عن دينهم، ووالى أعداء الإسلام؛ فقد خان الأمانة وخلع ربقة الإسلام من عنقه بكفره البواح، وصار الخروج عليه وعزله واجبًا بحسب الاستطاعة.
وفي الحب والبغض والموالاة والمعاداة
يوالون المسلمين ولاء عاما، فلا يتعصبون لشخص أو حزب أو شيخ أو جماعة، ولا لتسمية أو شعار أو راية يمتحنون الناس بها؛ بل يحبون ما أحب الله ورسوله ويبغضون ما أبغضه الله ورسوله، ويسعون لأن يكون المسلمون يدًا واحدة. ولا مُشاحَّة في الانتساب إلى الأسماء والرايات للتمييز والتعريف، كما يقال مالكي وشافعي، أو شامي ومصري.
فكل مسلم هو أخ للمسلم له ما له وعليه ما عليه.
وأكرم الخلق على الله أتقاهم من أي طائفة كان. ثم كل مسلم عامل لدين الإسلام رافع لواء الشريعة هو جندي على درب إقامة هذا الدين.
وقد قسم الله الأعمال كما قسم الأرزاق، فاجتهد كلٌّ بما وُفق إليه من نصرة الدين وإصلاح البلاد والعباد؛﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود:117].
وفي مسائل الاختلاف والاجتهاد
يتكلمون بعلم وعدل ويعذر بعضهم بعضا، فلا يَبغون على من خالفهم ولو كان مخطئا، ولا يُقَصرون عن بيان الحق بدليله.
قال عمر بن عبد العزيز: «ما يسـرني باختلاف أصحاب محمد حُمر النَّعَم، لأنا إن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا، وإن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا».
ولما استشار الرشيدُ مالكًا أن يحمل الناس على الموطأ أبى وقال: «إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم».
وصَنّف رجل كتابًا في الاختلاف فقال أحمد بن حنبل: «لا تسمه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة».
وفي سلوكهم وخُلقهم مع الخلق
يقتفون أثر النبي الذي كان خلقه القرآن، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بُعث به؛ فيَدْعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى.
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، لأن «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا - وشَبّك بين أصابعه» و«مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمّى والسهر».
ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء.
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال؛ «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا».
ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل. وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق.
وهم في كل أقوالهم وأفعالهم إنما هم متبعون للكتاب والسنة.
وفي الوعي بالواقع
لا يقعدهم الاشتغال بالشريعة عن اليقظة لما يحيطهم من أوضاع، والتبصـر في أحوال المجتمع وأمراض الأمة والأخطار المحدقة بها، والتمييز بين المصلحين والمفسدين، «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ»[الأنعام:55]؛ متبعين بذلك إمامهم صلى الله عليه وسلم، إذ كان محيطًا بأحوال بلده وما حولها، عارفًا بقبائل العرب وأخبار العجم من فرس وروم وحبشة، صاحب الطريقة المثلى في معاملة المسلمين بمختلف طبقاتهم -وفيهم المنافقون المضمرون للعداوة-، ومعاملة أعداء الإسلام من كل صوب.
فكانت سياسته النبوية الأساس لما عُرف بالسياسة الشـرعية في مقابل السياسات الملكية النابعة من أهواء الملوك بمعزلٍ عن الشرع.
ما هي أهداف دعوة أهل السنة والجماعة في عصرنا؟
إن انتسابنا إلى أهل السنة والجماعة بأصولهم الجلية وتاريخهم الناصع يملي علينا حمل الأمانة التي ورثناها عنهم بيضاء نقية وتأديتها على الوجه الذي يرضي ربنا. ونحن نرى أن ذلك يتحقق بالسعي الحثيث لتحقيق المقاصد والغايات التالية، ابتغاءً لوجه الله تعالى والدار الآخرة، واقتفاءً لأثر رسول الله قدر جهدنا: نشر دعوة الإسلام بشمولها، وعقيدة التوحيد بنقائها، حية متصلة بالعصر وقضاياه، وإعادة صلة المسلمين بالإسلام فهمًا وإيمانًا وعملاً، وإحياء روح الجهاد في سبيل الله.
بناء الجيل المؤمن وتربيته على منهج الإسلام وتأهيله لحمله، وتنظيم جهوده في العمل له، على أساس متين من البصيرة والحكمة.
ترسيخ قوة البناء المجتمعي باعتبارها أساس النهضة، وإقامة المجتمع المسلم نواة الدولة المسلمة، والتي هي بدورها منطلق حضارة الإيمان وعمارة الأرض. دعم العمل المؤسسي اللازم لبناء الدولة المسلمة، وتحقيق التنمية في شتى المجالات، بما في ذلك نقل التقنية، وبناء عناصر قوة الدولة. مواجهة التحدي الحضاري الفكري والاجتماعي والخلقي والاقتصادي والسياسي، والتحرر من التبعية بشتى صورها، وحماية المكتسبات والحفاظ على الأمة من الاختراقات، وترسيخ الإسلام كمنهج حياة لكل زمان ومكان.
التعاون بين الحركات الإسلامية الأصيلة والعاملين المخلصين للإسـلام، من أجل تكامل الجهود وتحقيق الأهداف المشتركة والسير نحو الوحدة الإسلامية. العودة إلى خلافة على منهاج النبوة؛ كشرعية مستقرة لا شرعيات ضرورة.
أخي المسلم؛ التحق بركب أهل السنة والجماعة
بأن تتعرف أصولهم وطرائقهم الآنفة وتجتهد في فقهها والتحقق بها علما وعملا.
وأن تضع يدك في أيدي من يحملون لواءهم بحق في عصرنا فتشد بنيانهم.